إلى روح صديقتي ريتا

ورقة خريف أخرى تسقط من شجرة الحياة.
كنت قد عودتني بأن ترسلي لي رسالة قصيرة عند عودتك من كل رحلة إلى وطنك الأم أو إلى قابس لنتشرف فنجان قهوة في مقهى البرط تلفنا أشعة الشمس التي لطالما عشقتها، مبتعدين عن ضوضاء الشارع مستمتعين بزرقة البحر الذي لطالما احتواك واحتويته بعينيك.
كنت تشاركينني خلاصة تجربتك في هذه الحياة، ولا تبخلين علي بالنصيحة، لترفعي عن عيناي بعض الغشاوة لينكشف أمامي ما قد ووري عني بأغبرة العادة وضباب التقاليد.
شاركتني عالمك الجميل الذي يعيش بداخلك، لأتعلم منك البساطة والصدق والحب، وأن أعيش الحياة كما لم أعشها من قبل، مستمتعا بكل لحظة تمنحها لي.
حتى لما بحتد النقاش بيننا لم تكوني لتغضبي أو تتعصبي لرأيك، بل كنت دائما ما تتجتوزين نقاط خلافنا بإبتسامة حلوة وروح مرحة.
في عالمك كل شيء جميل. كنت تستمتعين بكل إطلالة صباح، وتحتفلين بمغيب كل شمس، لاقطة كل خفقة جناح لنورس أو طائر.
كنت لا ترين في تقدمك في السن حاجزا أو مانعا عن العطاء، كنت تكتبين المسرحيات، تلحنين الأغاني، محولة بيتك الذي اخترته بكل عناية في عمق المدينة العربي إلى ملاذ لكل من به شغف للمسرح والموسيقى.
كان عطاؤك بلا حدود، وحبك لهذا الوطن ليس كمثله حب، كنت ترين في تونس وطنا تمارسين فيه مواطنتك وتدلين برأيك في كل مسائلها السياسية، ليتملكك الخوف كما يتملك كل تونسي حول مصير ومسار هذا الوطن.
ما زلت أتذكر ابتسامتك وسخريتك من الموت حين نصحتك بان تقلعي عن التدخين، كانت كلماتك: وهل تظن أن الماء الذي تشربه والهواء الذي تتنفسه أو الخضار والخبز الذي تأكله أكثر نقاءا من السجائر التي أدخنها. كل ما حولنا ملوث مملوء سموما، عش يومك ولا تحقل بالغد، فلن تعيش أكثر مما كتب لك أن تعيشه.
كانت لك من الروح المرحة الساخرة، ما يجعلك تتهكمين من طريقة العيش في وطنك الأم السويد، التي كانت حسب رأيك تحاصر وتقتل الروح الانسانية المتحررة بقوانينها ونواميسها الصارمة.
لكنك من وراء ابتسامتك وسخريتك، كنت تتألمين ويعشش الحزن في قلبك.
برد الوحدة وصقيع الغربة يحطمان فؤادك، تتألمين من بعدك عن ابنتك، عائلتك الوحيدة، ومن بعدك عن القلب الذي أحببته وأحبك…
أشعر بالأسى يا صديقتي، فلم أستشعر حجم حزنك يوم طلبت مني في آخر لقاء لنا بألا أتركك وأنساك، بعد أن قرر أحد أصدقاءك المقربين مغادرة تونس والعيش في المغرب. كنت تريدين أن توطدي صداقتنا أكثر، وذلك بطلبك أن تتعرفي على عائلتي، لكن مشاغل الحياة اليومية ألهتني، ولم أكن أحسب أن الساعات والأيام هي أقصر مما تبدو عليه.
آسف صديقتي، يا من جددت لي ألوان الباهتة عن وطني من خلال عينيها، وأحببت من خلالك تلك الأبواب والجدران في المدينة العربي حين كنا نتسكع في أزقتها.
أأسف لأني خذلتك حين كنت في حاجة إلى صحبتي.
لكن يبقى عزائي، أن روحك ستظل خالدة تحوم حول كل من تعرف إليك، وستبقى أفكارك المتحررة من كل قيد تلهم كل فكر متحرر متعطش للحياة.
نامي صديقتي، علك تجدين في العالم الآخر السعادة والرفقة التي لطالما ناشدتها، واعلمي أنني سأبقى وفيا لذكراك، مخلصا لأفكارك.

إلى روح الفقيدة ريتا من السويد، أستاذة مسرح متقاعدة، قضت آخر سنوات حياتها باحثة عن الدفئ في ربوع وطننا تونس.